معلوم أن الفلسفة تنشد الوصول إلى المعرفة والاتساع فيها، ومعلوم أيضا أنها من يمنح للوجود الإنساني قيمة من خلال سعيه للحقيقة العصية، فتخلق بذلك أجمل ائتلاف في عمق الاختلاف الذي تؤسس له، وهي محصنة بالحجة والبرهان والبناء المنطقي الرياضي، لأنها تطلب لذاتها، للمعرفة ولا شيء سواها.
وهكذا لما ارتبطت الفلسفة باعتبارها سعي نحو المعرفة، كان التفلسف محبة، وتسابق في محبة المحبة، لذلك يشهد التاريخ على أن جل الفلاسفة تلقوا الحكمة على يد فلاسفة آخرين، مما يفسر أن تعليمها كان ممكنا. أي تعليم التفكير والتأمل وتعلم الصرامة الفكرية، والإنعتاق من سلطة المعارف الساذجة، هكذا كانت الفلسفة قبل أن تلج الأسوار وتصير محكومة بشروطها.
وبهذا، فالحديث عن تعليم الفلسفة وتدريسها، يجعلنا نصطدم بمجموعة من الأسئلة التي تفرض ذاتها، نصوغها كالآتي:
- هل تعليم الفلسفة ينطبق عليه ما ينطبق على سائر المواد التعليمية الأخرى؟
- ماذا نريد من تعليم وتدريس الفلسفة، هل تكوين تلاميذ لديهم القدرة على التفلسف أم تكوين تلاميذ غرباء عن ذواتهم؟
إن تعليم الفلسفة، معناه الحديث عن المعرفة التي يمكن أن تنقلها الفلسفة للمتلقي(المتعلم)، وأول من أثار مسألة المعرفة هاته، هو الفيلسوف اليوناني سقراط حين قال "أيها الإنسان إعرف نفسك بنفسك"، لكن المسألة ستأخذ بعدا آخر أكثر من الإلحاح السقراطي في السعي الذاتي نحو المعرفة، خصوصا في الفلسفة الحديثة التي ستعلمنا سبل تحقيق المعرفة كما ورد مع ديكارت، وكما جاء مع إيمانويل كانط بسؤاله النقدي حول المعارف حين تساءل : " ماذا يمكنني أن أعرف؟ " هل الفلسفة أم التفلسف؟، وهو الأمر ذاته الذي أثاره هيجل أيضا.
غير أن تاريخ الفلسفة من اليونان إلى الآن شهد تحولات معينة في طريقة تعليمها وتعلمها، فمن فضاءات الأسواق التي جابها سقراط والساحات العمومية أصبحت الفلسفة معتقلة داخل أسوار المدارس والثانويات ومحكوم عليها بإتباع ضوابط ديداكتيدية وبيداغوجية شأنها في ذلك شأن باقي المواد التعليمية الأخرى، فالمعرفة الفلسفية مادامت قابلة للتعليم والتعلم، فهي تسلب من الدرس الفلسفي كل خصوصية مادامت تعثر على نفسها داخل المؤسسات التعليمية إلى جانب باقي المواد، وبات الدرس الفلسفي إذن يقوم على مكونات أساسية هي: الكفايات والمحتوى والطرق والوسائل والتقويم. وبالتالي لا يستقيم تعليم الفلسفة إلا بهذه المقومات الخمسة.
لكن ما الغاية من تعليم الفلسفة؟
إن الغاية من تعليم الفلسفة هو تعليم التفكير وليس التلقين، لكن هل هذا ما يحدث فعلا داخل أقسام الفلسفة في الثانوي؟
إن المتأمل في الدرس الفلسفي المعاصر في الجزائر مثلا، يجده يعيش في غربة وتيه بين مقاربة كل من كانط وهيجل، باعتباره صار عملية شحن للذاكرة بمواقف لا تمنح فرصا للتفكير والتأمل، فكيف يمكن إذن معالجة هذه الممارسة الفصلية السائدة الآن داخل الأقسام؟
لقد صرح كانط في "نقد العقل الخالص، ص399" وقال : "لا يمكن أن نتعلم أي فلسفة. إذ أين هي؟ ومن يملكها؟ وكيف نتعرف عليها؟ لا يمكننا سوى تعلم أن نتفلسف، أعني أن نمرن موهبة العقل في تطبيق مبادئه الكلية على بعض المحاولات التي تمثل لنا إنما دائما مع هذا التحفظ لجهة الحق الذي للعقل في أن يفحص هذه المبادئ حتى في مصادرها فيؤكد عليها أو يرفضها"1، فهنا إقرار بأننا لا نتعلم الفلسفة بل التفلسف، وبالتالي ضرورة جعل التفلسف هدفا أسمى لكل تعليم في مجال الفلسفة، حيث تعويد المتعلم على التفكير السليم وتزويده بثقافة فلسفية تغني عقله وتوسع آفاق تفكيره وتمكنه من تكوين مواقف واعية ومسؤولة تنبني على أسس مضبوطة وزرع ملكة التحليل والنقد والتركيب في عقليته... غير أن هيجل ينتقد هذا الطرح الكانطي ويعتبر أن هذا التعليم حين لا يقصد الفلسفة وإنما التفلسف، يشبه السفر من غير توقف على المدن والأنهار والبلدان و الشعوب، وكما لو أن المرء يتعلم النجارة لا كيف يصنع مائدة أو كرسيا أو بابا أو مقعدا أو ما إلى ذلك... إذن لابد من اكتساب المعرفة الفلسفة من خلال الوقوف عند الأفكار الفلسفية وأطروحات الفلاسفة. أي السفر في دروب تاريخ الفلسفة. وبالتالي لا يجوز تعلم التفلسف بدون فلسفة لأن ذلك بمثابة التفكير بلا أفكار.
إن هذه الثنائية، ينبغي أن تحظر في الدرس الفلسفي من دون إسقاط وإغفال لأي منها، فلا يمكن تعلم الفلسفة من دون معرفة للتاريخ ومن دون إكساب المتعلم للقدرة على التفلسف ومهارات التفكير والتأمل، ويمكن بلورة ذلك في ثلاث وضعيات هي التي تؤطر كل بناء بيداغوجي لدرس الفلسفة وهي: وضعية بناء ومعالجة إشكالات الدرس، ووضعية دراسة النص، ووضعية الكتابة الفلسفية.
فهذه الوضعيات الثلاثة تشكل جوهر تعليم وتعلم الفلسفة، والسفر من خلالها في بناء الدرس يكسب المتعلم مجموعة من الكفايات النوعية نلخصها في ثلاثة كفايات تتحقق من خلال الوضعيات السابقة وهي : المناقشة الفلسفية والقراءة الفلسفية ثم الكتابة الفلسفية.
لكن الجدير بالذكر أن تعليم الفلسفة وهو يؤثث نفسه بكل هذه العدة البيداغوجية يعاني مثلا في المغرب من "الموسوعية الجاهلة" التي تغيب الفلسفة والتفلسف معا، فالكتب المدرسية مثلا تعاني من هفوات كثيرة، والخوف كل الخوف من تراكم هذه الهفوات والوثوق فيها بترويجها، وأيضا غلبة طابع الكم على الكيف، والذي يقتضي في تعليم الفلسفة جهدا سيزيفيا من قبل المدرس. فينتهي تعليم الفلسفة بهذا المعنى بانتهاء السنة الدراسية، وأيضا تعليم الفلسفة يحتاج إلى إحياء الفلسفة من قبل مدرسين فلاسفة، فالكثير من مدرسي الفلسفة ليسوا إلا مدرسين ولم يتحولوا إلى فلاسفة، فلا بد من إحياء الفلسفة عبر أشخاص إن لم ينتصروا، لا يقبلون بالهزيمة. وان يجعلوا من تعليم الفلسفة إحياء لملكة النقد الاستدلالي والبرهاني والحجاجي واستقلالا عن الإجابات النهائية والقطعية الجاهزة، فلابد إذن من تمزيق وثوقية المتعلم حتى نمكنه من ولوج الفلسفة والتفلسف، من دون أن ننتصر للمنهجية الفقهية التي تعمل على شحن الأذهان والحفظ.
يمكنك الاستعانة بالروابط التالية ليتسع عندك الاطلاع:
تعليم الفلسفة وسؤال الحاضر، لحمد الخالدي
مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة، لمصطفى الكاك
هيغل، الفيلسوف، لمحمد زرنين