IV - التمثيل مقدمة : إن اتفاق الفكرمع نفسه ، وانطباقه مع ذاته هو مجال فكري يهتم به ما يسمى بالعلوم الصورية . - فالعلوم الصورية موضوعها هو دراسة قوانين الفكر الضرورية ، و القواعد التي يجب الالتزام بها ، حتى لا يتناقض الفكر في أحكامه أو استدلالاته .
ما هو الاستدلال : Raisonnement الاستدلال هو حركة الفكر الذي به يكتسب معرفة جديدة من معرفة سابقة ، فهو انتقال العقل من أمر معقول إلى أمر آخر معقول أي من المعلوم إلى المجهول و يقف على أمور جديدة إما باكتشاف حقيقة جديدة غير متوقعة كما هو الشأن في الاختراع و الاكتشاف و إما بإثبات حقيقة سبق اكتشافها و بقيت في حاجة إلى التيقن منها . فالاستدلال عامة هو عملية ذهنية برهانية تتألف من أحكام متشابهة ، إذا وضعت لزم عنها بذاتها حكم آخر بالضرورة بمعنى هو الانتقال من قضية أو قضايا إلى قضايا أخرى تلزم عنها بمقتضى القواعد و القوانين المنطقية و تسمى القضية أو القضايا التي نبدأ منها بالمقدمة أو المقدمات ، وتسمى القضية اللازمة عنها بالنتيجة . - و الاستدلال له مادة وصورة أي مضمون وهيأة ، فمادة الاستدلال هي المعاني التي تستدل ببعضها عن بعض ، و أما صورته فهي الهيأة التي تترابط بها هذه المعاني في الذهن المستدل . - و قد قسم الفلاسفة الاستدلال إلى ثلاثة أنواع : الاستنتاج و الاستقراء و التمثيل
أنواع الاستدلال :
I - الاستدلال الاستنتاجي : هو الاستدلال الذي يشتغل عليه المنطق الصوري و يسمى أيضا الاستنباط (Déduction) و هو الانتقال إما من العام إلى الخاص ( من القانون إلى الوقائع ، من المبدأ إلى النتائج ، من الكليات إلى الجزيئات ) في حالة القياس ، و من العام إلى العام في حالة الاستنباط الرياضي . ويعرف على أنه " استنتاج صدق قضية أو كذبها من قضية أخرى أو عدة قضايا " وهو نوعان : مباشر أو غير مباشر 1- الاستدلال المباشر : و هو استنتاج صدق أو كذب قضية من قضية أخرى مباشرة دون توسط قضية ثالثة بينهما ، وذلك مثل الاستدلال : كل المثلثات مضلعات إذن بعض المثلثات مضلعات و هذا الاستدلال على عدة أنواع منها : أولا- الاستدلال بتقابل القضايا : و هو استنتاج قضية من قضية أخرى تقايلها مباشرة ، تشبهها في الموضوع و المحمول ، و تختلف معها من حيث الكم ، أو الكيف ، أو الكم و الكيف معا . و الاستدلال بالتقابل يقتضي احترام القواعد التالية : • قاعدة التناقض : و تكون بين قضيتين مختلفتين كما و كيفا . و القضييتان المتناقضتان لا تصدقان معا ، ولا تكذبان معا ، أي إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة ، فالمتناقضان لا يجتمعان . مثلا : لا إنسان فيلسوف متناقضة مع بعض الإنسان فيلسوف
1- • قاعدة التضاد : و تكون بين قضيتين كليتين ، مختلفتين كيفا ، متفقتين كما ، فالقضيتان المتضادتان لا تصدقان معا ، و قد تكذبان معا ، أي إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة ، أما إذا كانت إحداهما كاذبة ، فإن المضادة لها تكون غيرمعروفة الحكم ( قد تصدق و قد تكذب ) . مثلا : كل إنسان فيلسوف متضادة مع لا إنسان فيلسوف
• قاعدة الدخول تحت التضاد : و تكون بين قضيتين جزئيتين ، متفقتين كما و مختلفتين كيفا . وحكم الدخول تحت التضاد : أنهما قضيتان لا تكذبان معا و قد تصدقان معا ، بمعنى أنه إذا كذبت إحداهما فإن الأخرى صادقة بالضرورة أما إذا صدقت إحداهما فإن الأخرى تكون غير معروفة الحكم ( قد تصدق ، وقد تكذب ) مثلا : بعض الإنسان فيلسوف داخلة تحت التضاد مع ليس بعض الإنسان فيلسوف
• قاعدة التداخل : و تكون بين قضيتين مختلفتين كما ، و متفقتين كيفا . حكم القضيتين المتداخلتين كالآتي : - إذا كانت الكلية صادقة فإن الجزئية صادقة بالضرورة ، أما إذا كانت الكلية كاذبة فإن الجزئية تكون غير معروفة الحكم . - أما إذا كانت الجزئية كاذبة فإن الكلية تكون كاذبة بالضرورة ، أما إذا صدقت الجزئية فإن الكلية تبقى غير معروفة الحكم . مثلا : كل إنسان فيلسوف متداخلة مع بعض الإنسان فيلسوف
ثانيا - الاستدلال بالعكس : معنى العكس يعني القلب و التبديل . و اصطلاحا يعني : استنتاج قضية من قضية أخرى مباشرة ، و ذلك بتبديل حدّي القضية الأصلية في القضية المعكوسة ، بحيث يصير الموضوع محمولا و المحمول موضوعا . لكن هذا العكس لا يكون عشوائيا ، بل يخضع لقواعد وجب أن يلتزم بها :
قواعد العكس : • قاعدة الكيف : إذ يجب المحافظة على كيف القضية الأصلية في القضية المعكوسة ، فإذا كانت القضية الأصلية سالبة و جب أن تكون المعكوسة سالبة ، و إذا كانت الأصلية موجبة فالمعكوسة وجب أن تكون موجبة .
• قاعدة الاستغراق : بحيث لا نستغرق في القضية المعكوسة حدا ، لم يكن مستغرقا في القضية الأصلية .
- وبتطبيق هذه القواعد على القضية الحملية يكون العكس فيها كالآتي : * الكلية الموجبة تعكس إلى جزئية موجبة مثال : " كل إنسان فان" تعكس " بعض الفاني إنسان " . * الكلية السالبة تعكس إلى كلية سالبة مثال : " لا إنسان فان " تعكس " لا فان إنسان " . -2- • الجزئية الموجبة تعكس إلى جزئية موجبة مثال : " بعض الإنسان فان " تعكس " بعض الفاني إنسان " * الجزئية السالبة لا عكس لها .
تقويم الاستدلال المباشر : إن الهدف الأساسي من الاستدلال هو الوصول إلى جديد ، فهل يقضي بنا الاستدلال المباشر إلى الجديد الذي نرومه ؟ و قبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي لتا أن نحدد معنى الجديد الذي نبغيه ؟ فإذا كان هذا الجديد هو الوصول إلى حقائق و مكتشفات لم يكن لنا بها علم من قبل ، كما هو الشأن في التجريب و الاستقراء ، فلو كان الأمر كذلك لما وجدنا في الاستدلال المباشر جديدا بالمرة ، ولو كان المقصود بالجديد جديدا في حدود العمليات المنطقية الداخلة في إطار المنطق القياسي أي أنه يمكننا الاستدلال من الربط بين شيئين لم يتضح لنا الارتباط بينهما من قبل ، لرأينا أن هذه النتيجة على تواضعها لا ييسر لنا الاستدلال المباشر سبيل الحصول عليها ، ولذلك يرى بعض المناطقة أن الاستدلالات المباشرة ليست استدلالات بكل معنى الكلمة لذلك يسمونها الاستنتاجات لأنها لا توصل إلى معارف جديدة بل توصل إلى تعبير آخر إلى نفس الحقيقة ، كما أنها لا تقوم بالبرهان على المقدمة . و مع ذلك فإن الاستدلالات المباشرة هي نوع من الاستدلالات قائم بذاته ، وله أهمية خاصة من حيث أنه من جهة استنتاج قضية من قضية أخرى ومن جهة ثانية استنتاج صدق أو كذب قضية من صدق أو كذب قضية أخرى ، وهو يستحق أن يدرس ، وقد درسه أرسطو نفسه و استخدم بعض صوره .
2- الاستدلال غير المباشر: و ينقسم إلى : - الاستنباط القياسي (القياس ) - الاستنباط الفرضي - الاستنباط الرياضي
أولا : الاستنباط القياسي ( القياس ) : هو استدلال مؤلف من قضيتين أو أكثر تلزم عنها قضية أخرى بالضرورة ، عرفه " ابن سينا " في كتابه النجاة : " بأن القياس المنطقي قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها ، لا بالعرض ، قول آخر غيرها اضطرارا " وعرف " أرسطو" القياس على أنه : " قول إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد لزم شيء آخر من الاضطرار لوجود تلك الأشياء الموضوعة بذاتها "
ويعتبر القياس في نظر " أرسطو" هو الاستدلال الأمثل الذي يتجلى فيه العلم . و هو على ثلاثة أنواع :
أ- القياس الحملي ( الاقتراني ) :
و هو قياس بسيط يتألف من قضيتين حمليتين و نتيجة حملية تلزم عنهما بالضرورة مثال ذلك :
-3- - كل المعادن تتمدد بالحرارة : مقدمة كبرى - الحديد معدن : مقدمة صغرى - الحديد يتمدد بالحرارة : نتيجة
• قواعد القياس الحملي :
فالقياس حركة برهانية تخضع لنظام عقلي دقيق و قواعد وجب الالتزام بها و إلا فسد القياس ، و صار غير منتج ، و نشير إليها مختصرة كما يلي : - يحب أن يتألف القياس من ثلاث حدود : حد أكبر وحد أوسط وحد أصغر . - يجب أن لا يظهر الحد الأوسط في النتيجة . - يجب أن يستغرق الحد الأوسط في إحدى مقدمتي القياس على الأقل . - يجب أن لا يستغرق حد في النتيجة ما لم يكن مستغرقا من قبل . - وجب أن تكون إحدى مقدمتي القياس كلية ، لأنه لا إنتاج من جزئيتين . - وجب أن تكون إحدى مقدمتي القياس موجبة لأنه لا إنتاج من سالبيتين . - النتيجة تتبع أحسن المقدمات ، أي الأقل قيمة ( فالكل أفضل من الجزء و الموجب أفضل من السالب )
* أشكال القياس الحملي : و المقصود بالشكل هو مختلف الصور التي يمكن أن يكون عليها القياس تبعا للوضع الذي يكون عليه الحد الأوسط في المقدمتين .
- الشكل الأول : الذي يكون فيه الحد الأوسط موضوعا في المقدمة الكبرى و محمولا في المقدمة الصغرى مثل : - كل إنسان مفكر - كل فان إنسان - كل فان مفكر
- الشكل الثاني : و هو الذي يكون فيه الحد الأوسط محمولا في المقدمتين ، مثال : - كل فيلسوف حر - لا مقلد حر - لا مقلد فيلسوف
- الشكل الثالث : و هو الذي يكون فيه الحد الأوسط موضوعا في المقدمتين ، مثال : - كل مؤمن صادق - كل مؤمن عامل - بعض العامل صادق
-4- - الشكل الرابع : و هو الذي يكون فيه الحد الأوسط محمولا في المقدمة الكبرى و موضوعا في المقدمة الصغرى ، مثال : - كل تسامح تحضر - كل تحضر ثقافة - بعض الثقافة تسامح و لكل هذه الأشكال منها قواعدها الخاصة و أضربها المنتجة .
ب- القياس الشرطي ( الاستثنائي ) :
وهو قياس مؤلف من مقدمتين ، إحداهما قضية شرطية كبرى ، تتألف من قضيتين حمليتين ، و قضية صغرى حملية تتثبت أو تنفي أحد طرفي الشرط في القضية الكبرى ، و نتيجة حملية تلزم عن ذلك ، مثال : - إذا كان التلميذ مجتهدا فسوف ينجح . - لكنه مجتهد . إذن : سوف ينجح .
و هو على نوعين : بحسب أقسام القضية الشرطية :
* القياس الشرطي المتصل : مثل : - إذا ازدهرت الحضارة انتشر التفلسف - لكن الحضارة مزدهرة إذن : انتشر التفلسف
* القياس الشرطي المنفصل : مثل : - إما أن نهتم بالعلم أو ينتشر الجهل . - لكننا نهتم بالعلم . إذن : لن ينتشر الجهل
نقد الاستدلال بالقياس : يتضح مما سبق أن أرسطو قد غالى في الاعتزاز بالقياس و في اعتباره نموذجا للاستدلال المنطقي ، إذ أننا تلاحظ في يسر أن القياس يدور في دائرة مغلقة ، من حيث أنه يقرر حقائق سبق اكتشافها ، فهو من ثم لا يضيف إلى معرفتنا جديدا ، فكل إنسان حيوان و كل حيوان فان ، إذن كل إنسان فان ، فإننا لم نصل من هذه النتيجة لجديد ، فضلا عن أن صحة المقدمة الكبرى و أن النتيجة متوقفة على المقدمة بينما المقدمة متوقفة بدورها على النتيجة . و تأكيدا لفساد القياس على الطريقة الأرسطية يقدم لنا " ديكارت " مثلا لمقدمات فاسدة تؤدي إلى نتائج صحيحة هي حقائق توصلنا إليها بطريقة أخرى : مثال : - كل إنسان حصان - كل حصان عاقل إذن : كل إنسان عاقل -5- - نلاحظ أن النتيجة هنا صحيحة من حيث الواقع ، وإن كانت المقدمتان فاسدتين – ويقتضينا الإنصاف أن نقول إن أرسطو نفسه قد أدرك خطورة هذا الوضع فبينه في القاعدة التالية : وهي أننا لا نصل إلى نتيجة فاسدة حيث تكون المقدمات صحيحة ، و لكننا قد نصل إلى نتيجة صحيحة مطابقة للواقع من مقدمات فاسدة – فلو افترضنا أننا اتبعنا دائما ضرورة التأكد من صحة المقدمات للوصول إلى نتيجة صحيحة فإن القياس يظل عقيما رغم هذا لا يمضي بنا إلى جديد ، حيث أن النتيجة كانت أصلا منطوية في المقدمتين ، ومن هنا ارتأى العلماء و الباحثون أن الطريق الذي يمضي بالعلم قدما هو طريق الاستقراء و ليس طريق القياس ، اقتداء بدعوة " بيكون " التي تعتمد على الملاحظة و التجربة وتحقيق الفروض .
ثانيا : الاستنباط الفرضي : و هو يسمى أيضا بالاستدلال الفرضي الاستنباطي لكونه يبدأ من فروض يستنبط منها النتائج ، ويسميه بعض المناطقة بالاستدلال الشرطي ، لكونه يبدأ إما من قضايا شرطية ، و إما من قضايا منفصلة ومتصلة ، من الممكن ردها إلى قضايا شرطية ، و قد يسمى خطأ بالقياس الشرطي لإمكانية رده ، حتى مع إفساد طبيعته ، إلى القياس ، وليس هو بقياس ، إنه استدلال مقدماته غير حملية ، أعني قضايا لها طابع فرضي ، مثل القضايا الشرطية ، وبعبارة أخرى يبدأ الاستدلال من مجرد فروض ، ولا يهم أن تكون هذه الفروض من وقائع أو قوانين ، فهو إما أن يبدأ من وقائع مستنبط منها القوانين ، و إما أن ينتقل من القوانين إلى الوقائع ، و قد ينتقل أيضا من وقائع إلى وقائع . و من الأمثلة عليه :
- إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود - و لكن الشمس طالعة إذن : النهار موجود
ثالثا : الاستنباط الرياضي :
و هو ينتقل من عام إلى عام بتدخل قضايا أخرى عبارة متساويات يعوض بواسطتها عن مقادير بمقادير أخرى تعادلها ، و بذلك فهو يستخدم مبدأ الحذف و التعويض بالمتساويات كما يستخدم العمليات الرياضية الأخرى من جمع و ضرب .... و إدخال و إزالة أقواس ..... الخ . فنحن في الاستدلال الرياضي نبرهن مثلا على 2+2=4 باستخدام القضايا التالية : 1+1=2......(القضية رقم 1) 2+1=3.......(القضية رقم 2) 3+1=4........(القضية رقم 3) فنقول : 2+2 = 2+2 = 2+1+1 ( و هذا بالتعويض عن العدد 2 باستخدام الفضية رقم 1 ) = 3 +1 ( وهذا بالتعويض عن 2+1=3 باستخذام القضية رقم 2 ) = 4 ( و هذا بالتعويض عن 3+1=4 باستخدام القضية رقم 3 ) - في الحقيقة الاستدلال الرياضي يتميز بالحرية و الابتكار في التفكير و البرهنة ، -6-
و لكن مع ذلك يمكن تحديد أساليب البرهنة الرياضية بصورة عامة بما يلي :
* طريقة التحليل : و يبتدئ فيها الرياضي بالقضية المجهولة المراد حلها ، و إثبات صدقها ، و إرجاعها إلى قضايا أخرى أبسط منها ، و صادقة لديه ( أي قضية سبق أن برهن عليها ) يقول " دوهامل " " تنحصر ... طريقة التحليل في وضع سلسلة من القضايا التي تبدأ بالقضية التي يراد البرهنة عليها ، و تنتهي بإحدى القضايا المعروفة ، بحيث إذا بدأ بالقضية الأولى تكون كل قضية نتيجة ضرورية للقضية التي تليها ، و من ثم تكون القضية المجهولة نتيجة للقضية الأخيرة ، و بالتالي صادقة مثلها "
و هذه الطريقة التحليلية قد تكون مباشرة أو غير مباشرة .
* طريقة التركيب : و فيها ينتقل العالم الرياضي من القضايا البسيطة المعروفة و الصادقة لديه ، إلى ما ينتج عنها من قضايا مركبة . أي الانتقال من بعض القضايا المعروفة التي سبق التسليم بصدقها ، ثم يصعد من قضية إلى أخرى حتى ينتهي إلى إثبات نتائج جديدة ، و هنا تتجلى فعالية الفكر الرياضي في الابتكار و الإبداع ، و خصوبة النتائج . - و من ثم فإن النتائج التي تترتب عن المنهج الرياضي و طبيعة موضوعه تتسم بأنها : - نتائج قطعية تعبر عن اليقين و الدقة والوضوح ، و هذا راجع إلى بساطتها و شدة انسجامها و ارتباطها فيما بينها . - إنها نتائج مجردة عن كل مادة حسية ، لأنها تتعامل مع كميات و مقادير بعيدا عن الكيفيات ، و الصفات ، من هنا كانت النتائج الرياضية تعبر عن منظومات ذهنية مجردة متعددة الصور و العلاقات - إنها نتائج تتصف بالانسجام مع مبادئها و منطلقاتها التي أنتجتها و الالتزام بأنساقها ، و التوافق معها بعيدا عن التناقض مما جعلها تحتل النمذجة في المعرفة و المثال الذي يقتدى به في اليقين . - إنها نتائج تعبر عن الجدة و الإبداع و الابتكار ، و فعالية العقل ، و ليست مجرد تحصيل حاصل حاصل و تكرار للمقدمات . - لهذا كانت كل هندسة تعتبر صحيحة فيما ذهب إليه ( هندسة إقليدس ، هندسة ريمان ، هندسة لوباتشفسكي ......) مادامت لا تتناقض مع مبادئها التي انطلقت منها كما يقول " بوانكري "
II – البرهان بالخلف : Démonsion Par l'absurde و هو يسمى في بعض الاستعمال باستدلال الرد إلى غير المقبول أو السخيف ، و يسمى في بعضه الآخر باستدلال الرد إلى المستحيل ، و هو يستخدم عندما لا نستطيع أن نبرهن مباشرة على قضية ما ، و هو يطبق على نطاق واسع في الرياضيات ، فعندما لا نستطيع أن نبرهن بطريقة مباشرة على نظرية ما ، نبدأ بفرض نظرية تكون نفيا للنظرية المراد البرهنة عليها ، و نستنتج منها النتائج التي تلزم عنها ، فنجدها متناقضة مع نظريات و نتائج سبق قبولها ، وهذا هو الرد إلى المستحيل ، وبذلك نكون مضطرين إلى رفض الفرض ، و هو نفي النظرية التي نكون مجبرين -7- على قبولها ، و التسليم بصدقها ، بمقتضى عدم التناقض ، و على هذا النحو تكون القضية قد برهن عليها برهانا غير مباشر بالبرهان على بطلان نفيها ، و يستخدم هذا البرهان أيضا في الفلسفة مع ملاحظة أنه ليس من الضروري دائما أن نصل إلى قضايا متناقضة ، فقد نصل إلى نتائج لا تتفق فقط مع الوقائع أو ما هو مقبول ، وعندئذ يسمى البرهان بالرد إلى السخيف أو غير المقبول ، و قد استخدم " زينون" هذا البرهان في نفي الحركة و الكثرة ، و استخدمه "أفلاطون " بكثرة على لسان "سقراط" بالمعنيين في محاوراته ، كما استخدمه " أرسطو" في عملية رد الأقيسة الناقصة إلى الكاملة ، ويجب أن نلاحظ أن البرهان لا يكون مشروطا إلا إذا قبلنا مع المنطق القديم مبدأ الوسط الممتنع الذي يقرر أنه ليس هناك وسط ممكن بين القضية و نفيها ، و بالتالي يسمح لنا الانتقال من البرهان على كذب الفرض إلى الإيمان بصدق ضده الذي لم نبرهن عليه ، إلا بطريق مباشر .
و صورة هذا البرهان هي : إذا لم تكن ' ق ' إذن لنفرض ' لا ق ' و إذا كانت ' لا ق ' كانت ' ك ' ولكن ' لا ق ' إذن ' لا لا ق ' ، وبالتالي ' ق ' و من الأمثلة عليه :
- إذا لم تكن الشمس طالعة فهي ليست طالعة - وإذا كانت الشمس ليست طالعة فالنهار ليس موجودا - ولكن النهار موجود إذن : الشمس طالعة
III – الاستدلال الاستقرائي ( الاستقراء ) : وهو الانتقال من الخاص إلى العام Induction ) ) ، إذ ينطوي على تعميم ابتداء من جزئيات ، وهو ينتقل من الوقائع إلى القوانين ، و من النتائج إلى المبادئ ، وهو يشمل ثلاثة أنواع : الصوري – العلمي – الرياضي وبالنسبة للعلوم الصورية تقتصر على النوع الصوري و النوع الرياضي فقط . 1- الاستقراء الصوري : و هذا النوع من الاستقراء ينطوي على تعميم لأحكام نوعية أو فردية أقل عمومية ، فنحكم فيه على الجنس بما حكمنا به على كل نوع من أنواعه ، و على النوع بما حكمنا به على كل فرد من أفراده ، ومن ثم فهو يقوم على إحصاء شامل لجميع الجزئيات ، سواء كانت أنواعا أو أفرادا ، فإذا كان لكل منها على حده صفة معينة كان في إمكاننا أن نحكم بأنها جميعا تتصف بهذه الصفة . و قد تكلم أرسطو عن هذا النوع من الاستقراء في التحليلات ، و فد عرضه في صورة قياس مقدمته الصغرى عبارة عن إحصاء شامل ، و لذا يسمى بالاستقراء القياسي ، و قد أرجع إليه فضل إثبات المقدمات الأولية .
-8- فمثلا :
- إذا كان كل من الإنسان و الحيوان و النبات يتنفس - و كل الكائنات الحية هي الإنسان و الحيوان والنبات إذن : كل الكائنات الحية تتنفس
و يلاحظ أن الاستقراء الصوري لا يكون دقيقا إلا إذا كان الإحصاء شاملا ، و هنا تكمن مشكلة هي : كيف نعرف أن الإحصاء شامل ، و إذا لم نقم بإحصاء شامل ، فإن حكمنا يكون معرضا للخطأ ، و مثال ذلك الحكم الاستقرائي : "كل البجع أبيض" ، لقد ظل هذا الحكم صادقا إلى أن اكتشف " بحع أسود " في أستراليا ، و بذلك أصبح الحكم الكلي كاذبا ، لأنه لم يقم في الأصل على إحصاء شامل ، وهذا الإحصاء الشامل غير ممكن إلا إذا كانت فئة الأشياء على البحث محدودة ، و لذلك فهو قد يكون ممكنا بالنسبة للأنواع و غير ممكن بالنسبة للأفراد ، لأن عددهم لا متناه ، و ربما كان ذلك هو السبب في قول أرسطو لا علم إلا بالكلى ، لأن الكليات متناهية العدد .
2- الاستقراء الرياضي الكامل : و يسمى أيضا " الاستدلال بالتكرار "
و هذا النوع من الاستدلال ينسب الخواص الحسابية و الجبرية التي لحالة أو لعدد محدود من الحالات ، إلى جميع الحالات المشابهة الممكنة ، فإذا أثبتنا خاصية لعدد كالزوجي مثلا ، في حالة ن ، ثم أثبتنا نفس الخاصية له في الحالة ن + 1 ، فإننا نستطيع أن نثبتها في جميع الحالات الممكنة ، فيكفي أن نثبت قابلية قسمة العدد الزوجي على 2 في حالة كونه 2، 4، 6 لنصل إلى الحكم بأن جميع الأعداد الزوجية تقبل القسمة على 2 . و يقول " بوانكاريه " ( 1856 – 1912 ) عن هذا الاستقراء الكامل إنه كالاستقراء العادي ينتقل من الخاص إلى العام ، و لكنه يختلف عنه بأنه أكيد و بأنه انتقال من المنتهي إلى اللامنتهي بعدد قليل من الخطوات ، و قد اعتبره أساسا حدسيا لجميع الأنساق الرياضية والمنطقية ، فهو الوسيلة الوحيدة الممكنة للبرهنة على عدم تناقضها . و لكن بعض الفلاسفة و المناطقة الرياضيين يرى أن هذا الاستدلال استنباط دقيق ، و أنه مجرد تطبيق لخاصية محققة ، فيما يخص كيان رياضي ، على جميع الكيانات الرياضية المكونة على النحو نفسه ، تطبيقا لا نهائيا.
العلاقة بين القياس والاستقراء :
اتضح لنا فيما تقدم أن ثمة خلافا بين القياس و بين الاستقراء من حيث التكوين و من حيث الغاية ، ففي القياس نستخلص النتائج من المقدمات أو ننتقل من العام إلى الخاص ، و في الاستقراء نمضي في الطريق العكسي ، فمن دراستنا للجزيئات نصل إلى الكليات ، و من بحثنا في الظواهر نصعد إلى النظريات والقوانين . و يرى فريق من الباحثين أن نتائج القياس نتائج يقينية مطلقا ، بينما نتائج الاستقراء مؤسسة على التجريب لا تعدو -9- أن تكون محتملة اليقين ، إلا أن الباحثين المعاصرين في فلسفة العلوم و مناهج البحث يرون أن التفرقة مسرفة مغالي فيها . فنحن مثلا في الرياضيات نستخدم القياس ، و على هذا نمضي من حالات خاصة مستنبطين حالات عامة . هذا من ناحية و من ناحية أخرى يلاحظ أن الاستقراء يستعين بالقياس في بعض مراحله ، إلا أن " كلود برنارد " يوضح العلاقة بين كل من الاستقراء و القياس توضيحا بارعا ، فيرى أن للاستدلال صورتين : الاستدلال الاستقرائي و هو الخاص بالبحث و الاستدلال القياسي و هو الخاص بالبرهنة و لا غنى لأحدهما عنى لأحدهما عن الآخر . و يذهب " كلود برنارد " إلى أن العلوم جميعا رياضية و طبيعية - و حتى العلوم الاجتماعية أوالإنسانية - هذه العلوم بأسرها تستخدم الاستقراء للكشف عن المجهول ، و تستخدم القياس لضبط النتائج التي تصل إليها و اختبارها . و يقدم لنا مثلا بالمقارنة بين موقف كل من عالم الرياضة وعالم التاريخ الطبيعي ، فهذان العالمان كلاهما يفكران بطريقة واحدة حتى يصلا إلى المبادئ العامة ، و عندئذ يسلك كل منهما طريقا يختلف عن الطريق الذي يسلكه الآخر . فعالم الرياضة يطبق مبادئه التي وصل إليها بطريقة مطلقة و أكيدة حيث أنه لا يستخدم التجربة ، و ليس في حاجة إليها أما علم التاريخ الطبيعي فالمبادئ التي وصل إليها تظل نسبية و لا بد له من التجربة للتأكد من صحتها ، النتائج التي وصل إليها العالمان تجعل الفارق بينهما جوهريا ، و أما الاستدلال الذي يستخدمانه فهو واحد لأنهما يعتمدان على قضايا عامة يستنبطان منها حالات جزئية . - إن كل قياس لا غنى له عن استقراء سابق عليه ، كما أن الاستقراء لا بد له من أن يستعين بالقياس للتحقق من صدق الفروض التي انتهى إليها ، لنضرب لذلك مثلا : فالرياضيات تلوح لنا أول وهلة قياسية استنباطية ، إلا أننا لو بحثنا بعمق في طبيعتها لانتهينا إلى أن العلوم الرياضية مرت في أول عهدها بمرحلة استقرائية ، كذلك العلوم الطبيعية لا سبيل لها إلى تحقيق تقدما ، ما لم تستنبط من النتائج التي وصلت إليها عن طريق الاستقراء ، فالاستنباط مكانه في العلوم الطبيعية ، والاستنباط منهج حيوي للفكر الإنساني سواء أكان الإنسان يمارس تفكيره في العلم أو في غير العلم ، و إذا قلنا بعد ذلك إن العلوم الرياضية قياسية ، و العلوم الطبيعية استقرائية ، فما ذلك إلا لأن الأولى أقدم العلوم فغدت أشدها يقينا تضع المبادئ ، وتستنبط منها النتائج دون أن تستعين بالعلوم الطبيعية . على أن العلوم الطبيعية لا غنى لها عن العلوم الرياضية ، و ليس ينتظر أن تصل العلوم الطبيعية إلى ما في العلوم الرياضية من دقة و ضبط و يقين ، حيث أنها في كشفها عن العلاقات بين الظواهر الطبيعية يتعذر عليها أن تصوغ جميع العلاقات صياغة رياضية .
-10-
- إذ ن يتبين لنا عمق العلاقة بين كل من الاستقراء و القياس ، فليس يصح للباحث أن يقابل بينهما كما لو كان نمطا من التفكير يختلف تماما عن النمط الآخر . و ربما كانت هذه التفرقة مسرفة من معقبات الحماس الدافق للبحث العلمي التجريبي .
IV - التمثيل : وهو الانتقال من الخاص إلى الخاص ( Analogie )
و هو انتقال من خاص إلى خاص ، إذ هو يستنتج من وجود بعض تشابهات شيئين وجود بعض تشابهات أخرى ، فإذا عضني كلب مثلا ، واحتفظت من ذلك بذكرى أليمة ، فعندما أقابل كلبا آخر، و لو كان هادئا لا يعض ، فإنني أخاف أن يعضني نتيجة لاستدلال تمثيلي هو : - ذلك كلب و قد عضني - و هذا كلب إذن لا بد من أن يعضني و هذا النوع من الاستدلال مفيد في تصور الفروض ، و لكنه ليس أكيدا ، لأنه من الممكن أن يؤدي بنا من إلى خطأ ، و ذلك إذا استرشدنا بأوجه التشابه السطحية .
و مثال ذلك : - شرب صديقي ماء يميل إلى البياض فسكر - هذا ماء يميل إلى البياض إذن فهو مسكر
و لكن إذا تمسكنا بأوجه التشابه العميقة بين الظواهر ، فإن الاستدلال يالتمثيل يكون له قيمة واقعية ، و هذا ما فعله الفقهاء المسلمون في قياسهم الأصولي ، الذي هو نوع من التمثيل ، و ما فعله " نيوتن " عندما استنتج من ظواهر التجاذب قانون الجاذبية العامة . وتلاحظ أن " أرسطو" تكلم عنه في التحليلات الثانية كصورة من صور البرهان ، و لقد كان التمثيل اليقيني مستخدما في أيامه في الرياضيات .
الخاتمة :
ومن المهم أن نقرر صور الاستدلال تعتمد على ما يسمى بقوانين الفكر الأساسية و هي : 1- قانون الذاتية : الذي صورته كما يلي : " أ " هي " أ " ، و الذي يقرر أن الحقيقة لا تتغير 2- و قانون عدم التناقض : الذي يقرر أن الشيء لا يمكن أن يكون " أ " و "لا أ " في نفس الوقت ، و بذلك يعبر عن ثبات الحقيقة في صورة سلبية . 3- و قانون الوسط الممتنع أو الثالث المرفوع : الذي يقرر أن يكون " لا أ " أو لا "لا أ" ، و بذلك يؤكد ما يثبته قانون عدم التناقض . و جميع صور الاستدلالات تعتمد بالتالي على مبدأ المقول على الكل و على اللا واحد الذي هو تطبيق لمبدأ الذاتية ، كما تعتمد على مبدأ عدم تجاوز المقدمات . -11-
مراجع البحث :
* التعريف بالمنطق الصوري - تأليف : محمد السرتاقوسني ( جامعة الجزائر ) - * أسس المنطق والمنهج العلمي – تأليف : الدكتور محمد فتحي الشنيطي (1970) * محاضرات في المنطق – تأليف : دكتور إمام عبد الفتاح إمام ( جامعة عين شمس ) * دروس المنطق الصوري – الدكتور محمد يعقوبي