من المؤسف أننا نلج القرن الواحد والعشرين ومع ذلك لا نزال نكتب التاريخ على طريقة الحوليات ولا نلتفت إلا للعظام من الرجال والكبار من الحوادث والكوارث والحروب. ولا تزال المؤسسات الأكاديمية وأوصياء الفكر لدينا يستنكفون الخوض في تاريخ الشعوب وحياة الناس العامة ويعزفون عن المصادر الشفهية ولا يقبلون إلا الوثائق الخطية وحطام الحفريات كمصادر موثوق بها، على الرغم من عدم توفرها في معظم الأحيان، وذلك بحجة أن الروايات الشفهية تحوّل الحدث من حقيقة تاريخية إلى خرافة أو أسطورة لا يمكن تصديقها. ويقولون بأن الروايات الشفهية متضاربة لا يمكن الركون إلى صحتها والتأكد من حقيقتها وليس هناك من سبيل لترجيح رواية على أخرى. هذا مع العلم بأن المصادر الخطية نفسها في كثير من الأحيان لا تقل تضارباً وتناقضاً عن الروايات الشفهية وهي مستقاة أصلاً من مصادر شفهية، وهنالك الكثير من كتب التاريخ الموروثة التي تحتوي على أحداث هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. ثم ألا يمكن أن نعتبر الاختلاف في الروايات الشفهية تعبيراً عن اختلاف في وجهات النظر وفي تفسير الأحداث؟ أو عن تضارب في المصالح؟ أو عن صراع طبقي أو قبلي أو إقليمي؟ ألا يمكن أن نبحث في الأسباب والدوافع التي حفزت الشعب إلى تحوير حادثة ما من واقعة تاريخية إلى أسطورة خيالية؟ ما هي الحاجات النفسية والوظائف الإجتماعية التي يخدمها هذا التحوير؟ هذه أسئلة في صميم منهج الكتابة التاريخية لكننا نتحاشاها لأنها صعبة. القضية في الأساس قضية منهج. إذا طبقنا على مصادر التاريخ الشفهي المناهج نفسها التي نطبقها على مصادر التاريخ المكتوب فإننا كمن يضع السرج على البعير، ومن المؤكد أن النتيجة لن تكون في صالح التاريخ الشفهي لأن التاريخ الشفهي له مناهجه الخاصة به.
أصبح التاريخ الشفهي في الآونة الأخيرة موضوعا مستقلا له مناهجه وبرامجه الخاصة، تؤلف فيه الكتب وتعقد له الندوات وتقام المؤتمرات وتؤسس الجمعيات. العجيب في الأمر أن الأمم المتحضرة التي تتوفر فيها الوثائق الخطية والحفريات هي التي بادرت إلى وضع مناهج وأسس لدراسة التاريخ من المصادر الشفهية وذلك ليس لدراسة تاريخها فقط بل لدراسة تاريخ الشعوب الأخرى، بما في ذلك تاريخنا نحن. وفي الولايات المتحدة والدول الأوربية تأسست المعاهد لدراسة التاريخ الشفهي والأرشيفات لجمع مادته وتصنيفها. ولم يعد الإهتمام بالتاريخ الشفهي قاصراً على الغرب بل لقد تنبهت بعض الدول الإفريقية والآسيوية إلى أهميته وأصبح من الواضيع الأساسية التي تدرس في جامعاتها. وازدهار التاريخ الشفهي ليس مرتبطا فقط بازدهار الدراسات الفلكلورية والأنثروبولوجية بل هو أيضا مرتبط بازدهار الديموقراطية والحرية السياسية لأن هدفه في المقام الأول هو دراسة عمال المناجم والمصانع وقاطعي الأخشاب والحرفيين التقليديين والفنانين الشعبيين والفلاحين البسطاء والناس العاديين للتعرف على نمط حياتهم ومهاراتهم وطريقتهم في العمل. ولا يمكن أن تزدهر مثل هذه الدراسات إلا في المجتمعات المتحضرة التي تجذرت فيها مفاهيم الذيموقراطية والحرية والتي تمنح الإنسان العادي كامل حقوقه وتعترف بقيمته وأهمية دوره ومكانته في المجتمع.
إن مفهومنا للتاريخ ضيق جدا ومحدود جدا. لو فتشت في المكتبة العربية بحثا عن كتب التاريخ فلن تجد إلا كتبا تؤرخ للدول، أو ما يسمى التاريخ السياسي. وغالبا ما توكل كتابة هذه التواريخ إلى مؤرخين رسميين لهم مواقف محددة من سير الأحداث. أما بقية شؤون المجتمع وحركته وصيرورته فقلما تجد من يهتم بها أو يلتفت لها. حصر التاريخي بالسياسي في ثقافتنا العربية المعاصرة ضيق من منهج الكتابة التاريخية وألقى بستار كثيف على بقية مكونات المجتمع وعلى المشهد الثقافي برمته. إننا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في مناهجنا العلمية، ولا أقصد هنا، بطبيعة الحال، المناهج المدرسية والمقررات الدراسية. ما أقصده هو فهمنا لطبيعة العلم وميادينه ومجالاته والمناهج التي نستخدمها في البحث العلمي وفي الكتابة العلمية. لا زال الكثيرون منا مثلا يقيّمون علمية البحث أو الكتابة بالموضوع المطروح وليس بالمنهج المتبع والنتائج المستخلصة. لا يوجد في العلم شيء تافه لا يستحق البحث أو موضوع لا يرقى إلى مستوى أن يشكل مجالا للبحث العلمي. كل شيء في هذا الكون، مهما دق شأنه أو جل، يشكل موضوعا قابلا للبحث وفق المنهج العلمي، فالعلم ليس له حدود وليس فيه مقامات ورتب، ولنا قدوة في قوله تعالى "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بعوضة".
الإهتمام بالتاريخ الشفهي لدينا يكاد يكون معدوماً عدا بعض المحاولات المتواضعة والتي يقوم بها أفراد قلائل يدفعهم الحماس والوعي بأهمية رصد بعض الحقائق والممارسات الإجتماعية من مصادرها الشفهية قبل أن تمحى من ذاكرة الزمن.. لاحظ أن هذه الأعمال جميعها تمت خارج أسوار المؤسسات الأكاديمية، وهذا دليل آخر من أدلة كثيرة على ما تعاني منه مؤسساتنا الأكاديمية من قصور. ومما يدعو للأسى أن من يريد بحث تاريخ منطقتنا الإجتماعي والحضاري، بل وحتى السياسي، يجد نفسه في أغلب الأحيان مضطراً إلى اللجوء إلى المصادر الأجنبية وكتب الرحالة الغربيين الذين جابوا أرجاء المنطقة خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وذلك لندرة المصادر المحلية ولعدم قناعتنا بأهمية الاعتماد على المصادر الشفهية في حالة تعذر الحصول على المصادر الخطية. ولا شك أن كتب الرحالة توفر مادة لا بأس بها ولكنها لا تخلو من السطحية ومن التحيز وسوء الفهم. وما يمكن الحصول عليه من المصادر الشفهية المحلية لو تمت الاستعانة بها لكان أغزر وأعمق وأكثر موثوقية.
الجهود الفردية ضرورية ينبغي تشجيعها في أي مجال، بما في ذلك التاريخ الشفهي، خصوصاً في ظل الظروف التي تعيشها منطقتنا. إلا أن الأمل المنشود هو أن تتبلور هذه الجهود الفردية ويلم شتاتها في حركة فكرية وتيار علمي متدافع وأن تلعب المؤسسات الأكاديمية دوراً أكبر في هذا الصدد. ولكن حتى يأتي ذلك اليوم يظل الرواد يحملون الراية ويكفيهم فخراً أنهم أحرزوا قصب السبق.